باسم لطفي يكتب: العلاقات المصرية بين الصين وأمريكا.. ضرورة استراتيجية في عالم متعدد الأقطاب

في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة، يبرز أمام صانعي القرار في مصر تحدٍ دقيق يتمثل في الحفاظ على توازن مدروس بين العلاقات مع القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية.
إن السير في اتجاه طرف واحد، مهما كانت المغريات، يجب أن تنتبه إليه المصالح الوطنية وفق رؤية طويلة المدى، لانه يتداخل مع هامش المناورة السياسي الذي تمتعت به الدبلوماسية المصرية عبر تاريخها الحديث.
وترتبط مصر بالولايات المتحدة الأمريكية بشراكة استراتيجية ممتدة منذ عقود، فمنذ توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، حصلت مصر على مكانة محورية في حسابات واشنطن في الشرق الأوسط، ووفقًا لتقارير وزارة الخارجية الأمريكية (2024)، بلغ إجمالي المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لمصر أكثر من 1.3 مليار دولار سنويًا، إضافة إلى التعاون الوثيق في مجالات التعليم، الصحة، ومكافحة الإرهاب.
وفي مجال التجارة، تشير بيانات المكتب الأمريكي للتجارة الخارجية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين وصل إلى 9.1 مليار دولار عام 2023، مع ميل الميزان التجاري لصالح مصر بفضل اتفاقيات مثل الكويز (QIZ) التي تسمح بدخول المنتجات المصرية إلى السوق الأمريكي بتخفيضات جمركية.
وعلى الصعيد العسكري، ظلت الولايات المتحدة مورد رئيسي للمعدات والتدريب العسكري للجيش المصري، مما ساهم في بناء قدرات دفاعية محترفة حافظت على توازن القوى الإقليمي.
وفي المقابل، تشهد العلاقات المصرية-الصينية نموًا غير مسبوق خلال العقدين الماضيين، خاصة بعد إعلان الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين عام 2014، ووفق إحصاءات وزارة التجارة الصينية (2024)، بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والصين حوالي 20 مليار دولار، ما يجعل الصين الشريك التجاري الأول لمصر.
واستثمرت الشركات الصينية بكثافة في مشروعات البنية التحتية بمصر، أبرزها العاصمة الإدارية الجديدة، ومنطقة الأعمال المركزية (CBD) التي تنفذها شركة “CSCEC” الصينية، إلى جانب استثمارات في قطاعات الطاقة، النقل، والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
كما دعمت الصين مصر خلال جائحة كورونا بإرسال لقاحات طبية ومعدات، مما عزز صورة الصين كشريك موثوق لدى الرأي العام المصري.
ورغم أهمية تعميق العلاقات مع الصين، إلا أن الانسياق وراء المحور الصيني دون الحفاظ على علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وأوروبا قد يؤدي إلى خسائر استراتيجية.
أولًا، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنفوذ اقتصادي وسياسي عالمي ضخم، وشبكة تحالفات واسعة تؤثر في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي، اللذين تعتمد مصر عليهما جزئيًا في برامجها التنموية.
ثانيًا، لا تقدم الصين مساعدات اقتصادية مشروطة بالإصلاحات أو الالتزام بالديمقراطية كما تفعل واشنطن، وهو أمر قد يبدو مغريًا، لكنه يحمل مخاطر الاعتماد الزائد على تمويلات آسيوية قد ترتبط بأجندات خفية مستقبلا.
ثالثًا، تتطلب بيئة الاستثمار الدولية من مصر الحفاظ على صورتها كدولة منفتحة ومتعددة العلاقات، لا تندرج بالكامل تحت أي محور دولي، مما يزيد من جاذبيتها للمستثمرين الغربيين والآسيويين على حد سواء.
ومن حسن إدارة السياسة الخارجية المصرية في السنوات الأخيرة تبني مبدأ “تنويع الشركاء” دون القطيعة مع أحد، فقد عززت القاهرة علاقاتها مع الصين وروسيا والهند، بالتوازي مع استمرار التعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويؤكد انضمام مصر إلى مجموعة “بريكس” الموسعة اعتبارًا من 2024، بالتزامن مع استمرار الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا، أن مصر تراهن على التعددية لا على المحورية.
واخيرا .. في عالم يعيد تشكيل نفسه على أسس متعددة الأقطاب، يصبح الحفاظ على توازن العلاقات مع القوى الكبرى ليس خيارًا بل ضرورة استراتيجية لمصر، خاصة إن التحرك الذكي بين بكين وواشنطن، بناءً على المصالح الوطنية الخالصة، هو ما يضمن لمصر تحقيق أهدافها التنموية، والحفاظ على أمنها القومي، وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.
وعلى صانعي القرار أن يتذكروا دائمًا أن الانحياز الأعمى لطرف دولي واحد قد يفتح باب العزلة، بينما التوازن الواعي يفتح أبواب الفرص.