إقتصاد مصر

“ترامب” يقود العالم.. نظام اقتصادى جديد أم فوضى دولية؟

ظهرت صورة دونالد ترامب عبر شاشات كبيرة أمام المشاركين في قاعة المؤتمرات بمنتجع التزلج دافوس يوم الخميس، لتجسد التأثير الكبير الذي أحدثه الرئيس الجديد بعد أيام قليلة فقط من بداية فترته الثانية في البيت الأبيض.

توافد رؤساء الوزراء وقادة الأعمال ورئيس البنك المركزي الأوروبي لحضور خطاب ترامب أمام المنتدى الاقتصادي العالمي، وهو أول خطاب عالمي له منذ عودته إلى المكتب البيضاوي. وعلق أحد الحاضرين مازحاً حول جلب “الفشار” لمتابعة العرض.

لم يتردد ترامب في التصعيد، مما أثار ضحكات متوترة عندما أطلق سلسلة من المطالب والإنذارات تجاه الحلفاء والمنافسين على حد سواء.

وطالب ترامب، السعودية ومنتجي البترول الآخرين بخفض الأسعار، ودعا البنوك المركزية العالمية إلى خفض أسعار الفائدة “فوراً”، وهدد الشركات الأجنبية بزيادة الرسوم الجمركية إذا لم ترفع استثماراتها في المصانع الأمريكية.

كما انتقد الاتحاد الأوروبي بشدة وطالب بوقف فرض الغرامات على شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.

وقال الرئيس الأمريكي: “سنطالب الدول الأخرى باحترامنا”، مضيفاً أن سلفه “سمح للدول الأخرى باستغلال الولايات المتحدة. لا يمكننا السماح بذلك بعد الآن”.

جاءت مطالب “ترامب” في خضم أسبوع أول مزدحم بالإعلانات التنفيذية التي تهدف ليس فقط إلى إعادة تشكيل الدولة، بل أيضاً إلى تعزيز هيمنة أمريكا الاقتصادية والتجارية.

وقد تصل الرسوم الجمركية إلى 25% على كندا والمكسيك اعتباراً من الأول من فبراير، ما يتجاوز الاتفاق التجاري الذي أبرمه ترامب نفسه في ولايته الأولى.

يمكن أن تواجه الصين رسوما جمركية تصل إلى 100% إذا لم توافق بكين على بيع ما لا يقل عن 50% من تطبيق “تيك توك” لشركة أمريكية.

وفي الوقت ذاته، أُمر الاتحاد الأوروبي بشراء مزيد من البترول الأمريكي لتجنب فرض رسوم جمركية، وأكد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية واتفاق باريس للمناخ للمرة الثانية.

وفي خطوة مفاجئة، لجأ ترامب إلى بند قانوني أمريكي عمره 90 عاماً لتهديد مضاعفة معدلات الضرائب على الأجانب والشركات الأجنبية إذا فرضت دولهم ضرائب “تمييزية” على الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية.

ووصف مدير مركز الضرائب التجارية بجامعة أوكسفورد، نيلس يوهانسن، هذه الخطوة بأنها “إلقاء قنبلة يدوية” على السياسة الضريبية الدولية، مشيراً إلى أن هذا النهج يهدف إلى “تشكيل سياسات الدول الأخرى من خلال الإكراه بدلاً من التعاون”.

تثير الخطط التي أعلنها ترامب، الأسبوع الماضي، احتمال اندلاع حرب اقتصادية متعددة الجبهات، إذ يستخدم الرئيس قوة الاقتصاد الأمريكي القوي لإعادة تشكيل النظام الدولي لصالحه.

ويرى المستثمرون وصناع القرار أن السؤال الأهم هو: “هل يمثل هذا النهج نسخة أكثر تطرفاً من السياسة القائمة على المعاملات التي اتبعها ترامب في ولايته الأولى؟ أم أنه تحول نحو أحادية غير مقيدة تتجاهل القوانين الدولية وتضغط على الحكومات والشركات الأجنبية؟”

وقال مدير أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم: “ترامب يستخدم كل شيء كسلاح: التجارة، الضرائب، والطاقة. أخشى أن يتم تسليح التمويل أيضا”.

وأضاف: “يراهن معظم الناس على أنه يهتم بسوق الأسهم، وأن هذا هو القيد الوحيد عليه، إلى جانب تصريحاته بأنه يريد أن يكون صانع سلام”.

في دافوس، أبدى المديرون التنفيذيون الأمريكيون حماسهم لجدول أعمال ترامب، مما يعكس عدم وجود قلق كبير داخل القطاع التجاري بشأن احتمال تصدع النظام الاقتصادي العالمي القائم على القواعد.

وقال جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورجان تشيس” في مقابلة مع قناة “سي إن بي سي”، إن “الرسوم الجمركية هي مجرد أداة اقتصادية.. هذا كل شيء. إذا كانت تزيد التضخم قليلاً، لكنها جيدة للأمن القومي، فليكن. تجاوزوا الأمر”.

انتعش سوق الأسهم الأمريكية مؤخرًا مع استيعاب المستثمرين لاحتمالات تخفيف اللوائح التنظيمية التي تحكم البنوك وشركات التكنولوجيا المتقدمة، إلى جانب الإعلان عن مشروع ضخم بقيمة 100 مليار دولار يهدف إلى تطوير بنية تحتية للذكاء الاصطناعي، أطلقته شركتا “أوبن إيه آي” و”سوفت بنك”.

يقول رئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي في معهد “أموندي” للاستثمار، محمود برادهان : “من خلال الأحاديث، الناس يتحدثون إلى الرؤساء التنفيذيين ويقولون إن الجميع يشعرون بتفاؤل كبير. وإذا سألت نفسي ما الذي يبرر هذه الروح التفاؤلية؟ فإن تخفيف اللوائح المصرفية أمر حقيقي، كما أن احتمالات خفض ضرائب الشركات حقيقية أيضاً”.

ومع ذلك، فإن التهديد بتوسع الحواجز التجارية وتفاقم الصراعات المتعلقة بالسياسات الضريبية خارج الولايات المتحدة يلقي بظلاله على التوقعات الاقتصادية.

يقول مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، فالديس دومبروفسكيس، إن تفكك التجارة العالمية يمثل مصدر قلق خاص للاقتصادات مثل أوروبا، إذ تمثل التجارة أكثر من خمس الناتج المحلي الإجمالي.

ويشير إلى تقديرات صندوق النقد الدولي التي تفيد بأن التفتت الجغرافي الاقتصادي الشديد في التجارة قد يؤدي إلى انخفاض بنسبة 7% في الناتج المحلي الإجمالي العالمي على المدى المتوسط.

وقال: “إذا ترسخ هذا التفتت الاقتصادي العالمي، وهناك خطر لحدوث ذلك، فستكون ثمة عواقب اقتصادية سلبية كبيرة”.

ومع ذلك، ورغم الاستعداد لمواجهة موجة من الرسوم الجمركية، يرى بعض صناع القرار الأوروبيين جوانب إيجابية محتملة.

يقول رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو: “إنها بيئة جديدة أقل راحة بالتأكيد لأوروبا، لكنها توفر أيضاً الكثير من الفرص. يمكن لأوروبا أن تُظهر هناك أننا نتمتع بالاستقرار وأنك في بيئة يمكن فيها إجراء الاستثمار بشكل متوقع”.

كما يشير المسؤولون الأوروبيون إلى أنهم قد يستفيدون من تعزيز العلاقات التجارية مع دول أخرى قد تُستبعد من الأسواق الأمريكية.

يقول مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي إن “الدول تأتي إلينا لأنها تريد تنويع تجارتها بعيداً عن الولايات المتحدة”.

وأضاف وزير الاقتصاد الإسباني كارلوس كوربو: “علينا أن نبقى منفتحين دون أن نكون ساذجين. نحتاج إلى أن تنافس شركاتنا في ظروف متكافئة، بفرص وشروط عادلة مقارنة بالآخرين. كان هذا هو الحال مع الصين، وسيتعين أن يكون هذا هو الحال أيضاً مع الولايات المتحدة”.

بينما انتقدت الولايات المتحدة وأوروبا ممارسات التجارة الصينية لفترة طويلة، سارعت بكين مؤخراً إلى تقديم نفسها كمدافع عن النظام العالمي القائم على القواعد بدلاً من كونه خصماً له.

وفي حديثه في اليوم التالي لتنصيب ترامب، أكد نائب رئيس الوزراء الصيني دينج شيوشيانج أن العولمة الاقتصادية “ليست لعبة صفرية من نوع تخسر أنت لأفوز أنا”.

وقال إن على أكبر دول العالم أن “تقود بالقدوة”، مشيداً بالهيئات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة.

لم تغب المفارقة عن الحاضرين في دافوس، حيث قدمت الصين نفسها كنموذج للتجارة الحرة، بينما يسعى ترامب إلى انتزاع تنازلات من أقرب حلفائه باستخدام القوة الاقتصادية.

ورغم وابل الإجراءات والتصريحات الصادرة عن البيت الأبيض، يتبنى معظم صناع القرار العالمي نهج الانتظار والترقب تجاه سياسة ترامب القائمة على المعاملات العدوانية، بدلاً من التسرع في استخلاص استنتاجات حول التداعيات طويلة المدى على النظام الاقتصادي العالمي.

يقول مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي: “لماذا أكشف أوراقي قبل أن يفعل هو؟”.

يقر وزير الأعمال البريطاني، جوناثان رينولدز، بوجود “العديد من الأسئلة” حول نهج الرئيس الأمريكي.

ويقول: “هل يتعلق الأمر باستخدام النفوذ في المفاوضات؟ أم يتعلق بجمع الإيرادات من خلال الرسوم الجمركية؟”.

ويضيف أن المملكة المتحدة ستواصل الدعوة إلى “اقتصاد عالمي أكثر انفتاحاً”.

ومع ذلك، لا شك في أن ترامب يشير إلى تصعيد كبير في طريقة استخدامه للتجارة كسلاح مقارنة بفترته الأولى.

تقول المسؤولة السابقة في وزارة التجارة البريطانية ألي رينيسون، والتي تعمل الآن في شركة الاستشارات “إس إي سي نيوجيت”، إن “الأشخاص المحيطين بترامب كان لديهم الوقت لبناء نهج منهجي ومنظم للسياسة التجارية الحمائية، وهذا يظهر بوضوح”.

وتوضح أن النهج يتمثل في إعداد ملف “أدلة” ضد الدول، ثم استخدامه لانتزاع تنازلات في مجالات السياسة الاقتصادية والخارجية.

يبقى السؤال حول مدى استعداد ترامب للمضي قدماً في نهجه.

يحذر رئيس مركز أبحاث “بروجل”، جيرومين زيتلماير، من أن الخطر في تجاوز النظام القائم على القواعد يتمثل في انهيار كامل للقنوات الدبلوماسية والقانونية لتسوية النزاعات الدولية.

إذا قرر ترامب الانسحاب من مجموعة أوسع من الأطر الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي، فإنه يحذر من أن الترتيبات التي تساعد في تنظيم الاقتصاد العالمي قد “تُدمر بشكل جوهري”.

ويضيف زيتلماير أن السيناريو الأقصى يتمثل في “أن يفعلوا كما فعل بوتين”، أي من خلال انتهاك قدسية الحدود الدولية، فالسيطرة على جرينلاند أو قناة بنما بالقوة، كما هدد ترامب، ستكون بمثابة “إعادة لقانون الغاب”.

يتساءل مدير دراسات السياسات الاقتصادية في معهد “أمريكان إنتربرايز”، مايكل سترين، عما إذا كان ترامب سيعكس “القوى الأساسية” التي تدفع نحو التكامل الاقتصادي العالمي، وعما إذا كان الرئيس نفسه يرغب في ذلك.

لكنه يشير، بغض النظر عن ذلك، إلى أن عدم اليقين بشأن نواياه الحقيقية “يجعل من الصعب على الشركات التخطيط، ويخلق تأثيراً مثبطاً على الاستثمار، ويزيد من التوترات مع حلفائنا”.

يحذر البعض من الانبهار بتهديدات ترامب أو تبنيه لرأسمالية بلا حدود، لأن جدول أعماله يفتقر إلى الاتساق.

تقول عميدة كلية الشؤون الدولية بباريس في “ساينس بو”، أرنشا جونزاليس : “ما نراه هو جرعات هائلة من الغطرسة الأمريكية. نحن معميون بشدة القضايا المطروحة على الطاولة وبقناعة ترامب، لكننا لا نلتفت للتناقضات. وكأننا جميعاً على دواء برتقالي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى